ـــــ على بعد خمسة كيلومترات من الجنوب الشرقي لمدينة "طهران" تقع مدينة "الرّي" التي ولد فيها عالمنا الطبيب أبو بكر محمد بن زكريا الرازيّ سنة 251ه - 875م و هي جليلة ذاخرة بالأدباء و العلماء و الأئمة و الزهّاد .
و ما ان شبّ الرازيّ حتى آنس في نفسه ميلا الى الأدب و الشعر , نزوعا الى الموسيقى و الألحان , فاذا به يلتقي مع أصحابه في حلقات السمر , فيمتعهم بصوته العذب الرخيم و في يده عوده يعزف عليه عزفا بارعا يلفت الانتباه . و لكن !! ما هذه الفكرة الغريبة التي اجتحات الرازيّ فجأة , حتى ارتسمت علامات الدهشة على وجوه أترابه و جلسائه , لقد و ضع عوده جانبا و قال بحزم و تصميم : كل غناء يخرج من بين شارب و لحية لا يستظرف .
و منذ ذلك الحين انقطع الرازيّ عن الغناء و لكنه لم يستطع أن يكبت ميله الى الموسيقى , و صبوته الى الأنغام . كان يتردد الى صديقه الصيدلاني التي كانت بينهما مودّة و ألفة , يراقبه حين يركب الأدوية و يبيعها للمرضى , و كان هذا الصديق ميالا الى الطرب و الغناء فلم يبخل عليه الرازيّ .
أخذ و لع الرازيّ بالعلوم الطبية يتنامى يوما بعد يوم , و يبعثه على الجدّ و الاجتهاد و دراسة علوم الجراحة و تشريح الجسم الانساني , و تصفح كتب الطب و الفلسفة تصفّح باحث محقق , لا قارئ عجول . فاكتشف الكثير من الأخطاء التي وقع فيها الطبيب اليوناني الشهير (جالينوس) على الرغم من كونه معّلم الأطباء , و هذا ما مهّد الطريق اليه فيما بعد ليصبح مديرا لمستشفى "الرّي" و يدعى أبو الطب العربي .
ألف الرازيّ كتابه (سرّ الأسرار) الذي شرح فيه منهجه في البحث و التجربة , و اكتشف "زيت الزّاج" و استخرج الكحول بواسطة تقطير مواد النشوية و السكرية المتخمرة , ليستعمله في تحضير الأدوية .
كان المنصور بن اسحاق , أحد ملوك الدولة السامانية , محبا للعلم مكرما للعلماء , و كان بينه و بين الرازيّ صلة قوية و صداقة متينة , فرأى طببنا أن يضع كتابا في الطب يطلق عليه (المنصوريّ)تكريما لهذا الملك و اعترافا بفضله , جعله في عشرة أقسام و ترجم هذا الكتاب الى معظم اللغات العالمية , و أصبح مرجعا دراسيا في الكثير من جامعات الشرق و الغرب .
كانت شهرة الرازيّ قد بلغت بغداد , و ملأت الأسماع أنباء علمه و مؤلفاته , فنظر الخليفة العباسي المعتضد في قائمة قدّمت اليه تضم أسماء مئة من الأطباء المشهورين في ذلك الحين , فوقع اختياره على الرازيّ فأمر باستدعائه من الريّ الى بغداد . كان قد بلغ من العمر أربعين عاما حين مثل بين يدي الخليفة , الذي طلب منه أن يبادر في تخطيط مشروع بناء مستشفى مجهز بكل الوسائل الطبية , امتلأت نفس عالمنا سرورا لأنه سوف يحقق أحلامه الواسعة في الطب .
طلب الرازيّ من غلمانه الموكلين بخدمته أن يحضروا له قطعة لحم كبيرة , فأخذ سكّينا و قسم هذه القطعة الى اربعة أقسام , ثم أمرهم أن يضعوا كلّ قسم في جهة من جهات بغداد الأربع , و كان يمرّ بهذه القطع بين الحين و الحين , و يفحصها و يشمّها , الى أن قرّ قراره على أن يبني المستشفى عند طرف الجسر الغربي من بغداد فقد تبين له أنه مكان صحّي و نقيّ الهواء لأن قطعة اللحم في تأخر فسادها عن سائر القطع , و تم بناء المستشفى و أطلق عليه أسم (البيمارستان العضدي) و لم يكن يقتصر على معالجة المرضى بل تحول بفضل الرازيّ الى جامعة طبية تلقى في أروقتها المحاضرات و تعقد الندوات .
لقد كان بحق أبا الطب العربي , و أكبر طبيب في تارخينا الاسلامي المجيد , فهذا أحد علماء الغرب في العصر الحديث يشهد له بذلك اذ يقول : كان الطب معدوما فأحياه جالينوس , و كان متفرقا فجمعه الرازيّ .
و أثاره و جهوده و اضافاته الجوهرية لا تزال تتردّد أصداؤها في المحافل العلمية و الطبية في الشرق و الغرب , فهو أول من جعل طب الأطفال مستقلا من فروع الطب , و أول من دعا الى تجربة الأدوية على الحيوان قبل الانسان , و أول من عرف أثر الضوء في حدقة العين , و أول من تنبه الى العدوى الوراثية , و انتقال الأمراض من الأباء الى الأولاد , و أول من استخدم الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات في خياطة الجروح بعد العمليات الجراحية التي يمتصها الجسم فتصير جزءا منه .
و لكن لابدّ للشمس أن تغرب , و لابدّ للشمعة أن تنطفئ , فقد أنهك العمل المتواصل الدؤوب جسد هذا العالم الذي أخلص لعمله و منحه معظم صباه و شبابه , و حرم نفسه من أجله متعة الراحة و لذّة الرّقاد , فكلّ بصره مع الزمن , و تسارع اليه الضعف حتى فقد في آخر عمره القدرة على الرؤية و الأبصار .
فلما أحس بعجزه عن مواصلة عمله في البمارستان العضدي و عدم قدرته على القيام بواجباته , طلب اعفاءه من العمل , و آثر أن يعود الى طبرستان القريبة من مسقط رأسه . و كان قد خلف كتاب (الحاوي) الذي يعدّ موسوعة غنية بالمعارف الصيدلانية و العلاج الطبي , وكتاب (منافع الأغذية) و كتاب (من لا يحضره الطبيب) .
و في عام 311ه - 923م تقريبا ودع الرازيّ الحياة , و لقي وجه ربّه الكريم بعد أن سجّل التاريخ اسمه في سجلّ الخالدين .
المفضلات