إذا كان من شائع القول في أبجديات الصراع العربي‏-‏ الإسرائيلي أن القضية الفلسطينية هي لب وجوهر الصراع فإن القدس هي لب وجوهر القضية الفلسطينية‏,‏ ومن ثم فإن أي طرح سياسي لإنهاء الصراع لا يتضمن حلا عادلا يعيد القدس بأكملها لأصحابها العرب يعني أن النار ستظل تحت الرماد‏.‏

والحقيقة أن ما يجري الآن في القدس ليس مجرد صدفة ولا هو فرط تطرف من جانب حكومة نيتانياهو الحالية ـ وإنما هو من صنع مخطط متصل الحلقات ـ وقد جاء الدور علي نيتانياهو لكي يغتنم فرصة الأجواء الدولية المواتية والأجواء العربية والإقليمية المرتبكة لكي يكثف من عمليات الاستيطان والتهويد في القدس‏.‏
ولعل من المفيد أن نسترجع كلمات إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي والذي قاد طاقم التفاوض الإسرائيلي في قمة كامب ديفيد عام‏2000‏ باعتبار أنه كان رئيسا للحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت والتي انتهت بالفشل بسبب موضوع القدس في المقام الأول حيث قال باراك بالحرف الواحد‏:‏ إن المفاوضات النهائية الفلسطينية‏-‏ الإسرائيلية يجب أن تفضي إلي تعزيز قوة إسرائيل وتدعيم القدس الكبري بأكثرية يهودية راسخة للأجيال المقبلة ومن ثم ينبغي علينا أن نفكر في ضم مدن استيطانية في القدس إلي القدس مثل معالية أدوميم وجفعات زئيف وجوش عتسيون التي تقع جميعها خارج حدود القدس وعلي بعد عشرة كيلو مترات منها أحيانا‏.‏
وربما يزيد من أهمية وصحة ما أقول به إن الحقائق علي الأرض الآن تعكس إصرارا إسرائيليا علي فرض واقع التهويد العمراني والديموجرافي علي مدينة القدس بأكملها‏,‏ بحيث يصبح من المستحيل البحث عن حل سياسي عادل لها ووضع الجميع أمام خيار وحيد هو خيار الحل الديني الرمزي بحيث ينحصر حق المسلمين في الحرم الشريف وحق المسيحيين في كنيسة القيامة تحت رايات السيادة المطلقة ومسئولية الأمن الكاملة للدولة العبرية‏.‏
وإذا كان الحديث يجري حاليا حول بناء طوق حديد من المستوطنات لكي تصبح جزءا من القدس‏,‏ فإنه ليس بالأمر الجديد وإنما هو جزء من مخطط قديم بدأ عام‏1948‏ بعد نجاح القوات الإسرائيلية في احتلال أكثر من‏84%‏ من مساحة المدينة وتدمير القري المجاورة للقدس مثل دير ياسين وعين كارم وغيرهما ووصولا إلي جريمة جبل أبوغنيم عام‏1997‏خلال حكومة بنيامين نتنياهو الأولي‏,‏ ومعني ذلك أننا إزاء مخطط بالغ الشراسة بدأ التنفيذ السافر له عقب حرب يونيو‏1967‏ عندما تمكنت إسرائيل من احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية ومحيطها‏.‏
ومن المؤكد أن إسرائيل تراهن علي استمرار تآكل وتراجع الموقف العربي وتتصور أن قبول العرب والفلسطينيين عند بدء عملية السلام تأجيل بحث موضوع القدس إلي المرحلة النهائية من المفاوضات أنه بمثابة إشارة إلي استعدادهم للمساومة علي هذه المسألة قياسا علي ما سبق أن أبداه العرب من تنازل عندما اعتبروا القدس الغربية المحتلة عام‏1948‏ جزءا من الدولة الإسرائيلية وعاصمة لها رغم أن قرار التقسيم تعامل مع هذه المسألة عبر فكرة تدويلها كمنطقة قائمة بذاتها وهو ما أسقط فكرة التدويل عمليا وفتح شهية إسرائيل أمام إمكانية ابتلاع القدس الشرقية أيضا‏.‏
وظني أن مثل هذا الرهان الإسرائيلي محكوم عليه بالفشل في نهاية المطاف ليس فقط لأنه ضد حركة التاريخ ـ وضد ثوابت الجغرافيا ـ وإنما لأن أبعاد وجذور وتداعيات هذه القضية تجعل منها قضية لا تقبل بأنصاف الحل‏.‏