التواضع هو تجمل النفس بالخضوع , و منعها عن الترفع على الناس و الاستخفاف بهم , و حملها على احترامهم مهما اختلفت دراجاتهم و تباينت مشاربهم , و عدو الكبر على أحد سواء في ذلك الوضيع و الرفيع و الصغير و الكبير , ليحافظ على منزلته في النفوس , و يأخذ مكانته في القلوب , و هي خصلة محمودة تدعوا إلى التودد و التعاون , و تدل على طهارة النفس , و سلامة الذوق , فكم رفع التواضع أقواما , فكانوا هم الأولى برضا ربهم و الفضل العظيم , و كم خفض الكبر آخرين فحل عليهم غضب الرحمن و باؤا بالخسران المبين .
قال الله تعالى : واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين . و قال جلّ شأنه : و لا تصعر خدك للناس و لا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور . و قال عزّ و جلّ : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا , و العاقبة للمتقين .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أوحى إلى أن تواضعوا و لا يبغ بعضكم بعض . و روى قيس بن حازم أن رجل أتى به إلى النبي صلى الله عليه و سلم , فأصابته رعدة , فقال له عليه الصلاة و السلام , هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد . و قال أيضا : اجتنبوا الكبر فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول الله تعالى للملائكة أكتبوا عبدي هذا في الجبارين . و قال لعمه العباس : أنهاك عن الشرك و الكبر فإن الله يحتجب منهما .
و قال سعد بن أبي الو قاص لابنه : يا بني إياك و الكبر و ليكن ما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت و الذي إليه تصير .
و قال سفيان : السفلة إذا تعلموا تكبروا , و إذا تمولوا استطالوا , و الكرام إذا تعلموا تواضعوا , و إذا افتقروا استطالوا .
و قال بن السماك : تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك .
و قال بعض الحكماء : من أظهر عيب نفسه فقد زكاها , فإذا قطع أسباب الكبر و حسم مواد العجب اعتاض بالكبرياء تواضعا و بالعجب توددا , و ذلك من أوكد أسباب الكرامة , و أقوى موارد النعم , و أبلغ الشفعاء إلى القلوب , بعطفها إلى المحبة , و بثنيها عن البغض – و قال غيره : من تكبر على الناس ذل – و إعجاب المرء بنفسه أحد حساد عقله , و ليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد , و لا إلى ما ينتهي إليه العجب غاية , حتى إنه لا يطفئ من المحاسن ما اشتهر , و ناهيك بسيئة تحبط كل حسنة , و بمذمة تهدم كل فضيلة مع ما يثيره من حنق , و يكسبه من حقد و قالوا أيضا : من برئ من ثلاث نال ثلاثا , من برئ من السرف نال العزّ , و من برئ من البخل نال الشرف , و من برئ من الكبر نال الكرامة .
و قال أحد الأدباء : من وُلد في الفقر أبطره الغنى , و من وُلد في الغنى لم يزده إلا تواضعا .
و قال احد العلماء : أجهل الناس من قلّ صوابه , و كثر إعجابه , و أبغض الناس ذو عسر يخطر في رداء الكبر . و قيل التواضع من أخلاق الكرام , و الكبر من أخلاق اللئام - و قيل تاج المرء التواضع .
و قال الشاعر
و أقبح شيء أن يرى المرء نفسه
رفيــع و عند العــلامين وضيــع
تواضــع تكن كالنجم لاح لناضــر
على صفــحات الماء و هو رفيــع
و لا تكن كالــدخان يعلــو بنفسـه
على طبقات الجــو و هو وضيع
المفضلات