bsm




* * * لقد لفت مصطفى لطفي المنفلوطي الابصار بمقالاته التي كانت تنشر في الصحف , لما كانت تحمله من موضوعات اجتماعية مسكوبة في قالب بليغ مشرق في ميدان القلم , و شهرته كانت قائمة على جاذبية أسلوبه لا على جوهر معانيه - فخترت لكم قصة حدثت معه فكتب يقول :


كان لي صديق أحبه ...
لفضله و أدبه , أكثر مما أحبه لصلاحه و دينه , فكان يروقني منظره و يؤنسني محضره , و لا أبالي بعد ذلك بشيئ من نسكه و عبادته , أو فسقه و استهتاره , لأنني ما فكرت قط أن أتلقى عنه علوم الشريعة أو دروس الأخلاق .
قضيت في صحبته عهدا طويلا , ما أنكر من أمره و لا ينكر من أمري شيئا حتى سفرت من القاهرة سفرا طويلا قتراسلنا حينا ثم انقطعت عني كتبه فرابني من أمره ما رابني , ثم رجعت فجعلت أكبر همي أن أراه , فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده , فذهبت الى منزله , فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد , و أنهم لا يعرفون أين مصيره , فوقفت بين اليأس و الرجاء برهة من الزمان , يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه , فأيقنت أن قد فقدت الرجل و أني لن أجد بعد اليوم اليه سبيلا .
هنالك ذرفت من الوجد دموعا لا يذرفها الا من قلّ نصيبه من الأصدقاء و أقفر ربعه من الأوفياء , و أصبح غرضا من أغراض الأيام , لا تخطئه سهامها و لا تغبه آلامها .
بينما أنا عائد الى منزلي في ليلة من ليالي السّرار اذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدهم الى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر اليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان , أو مأوى الغيلان , فشعرت كأني أخوض بحرا أسود , يزخر بين جبلين شامخين , و كأن أمواجه تقبل بي و تدبر , و ترتفع و تنخفض , فما توسطت لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة آنة تتردد في جوف الليل , ثم تلتها أختها ثم أخواتها , فأثر في نفسي مسمعها تأثير شديد و قلت : يا للعجب كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين , و خفايا المحزونين ! و كنت قد عهدت الله قبل اليوم ألا ارى محزونا حتى أقف أمامه و قفة المساعد ان استطعت ,أو الباكي ان عجزت , فتلمست الطريق الى ذلك المنزل حتى بلغته , فطرقت الباب طرقا خفيفا فلم يفتح , فطرقته أخرى طرقا شديدا ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها , فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها , فاذا هي في ثيابها الممزقة كالبدر و راء الغيوم المتقطعة و قلت لها : هل عندكم مريض ؟ فزفرت زفرة كاد أن ينقطع لها نيط قلبها و قالت : أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت . ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت الى غرفة ذات باب قصير مسنّم , فدخلتها فخيل اليّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء الى عالم الأموات , و أن الغرفة قبر , و المريض ميت , فدنوت منه حتى صرت بجانبه , فاذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه و أطال النظر في وجهي , ثم فتح شفتيه قليلا قليلا و قال بصوت خافت : أحمد الله فقد وجدت صديقي ! فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعا و هلعا , و علمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشدها , و كنت أتمنى ألا أعثر بها و هي في طريق الفناء , و على باب القضاء , و ألا يجدلي مرآها حزنا كان في قلبي كمينا و بين أضلاعي دفينا , فسألته ما باله ؟ و ما هاته الحال التي سار بها ؟ و كأن أنسه بي أمدّ مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار اليّ أنه يحب النهوض , فمددت يدي اليه , فأعتمد عليها حتى استوى جالسا و أنشأ يقص عليّ القصة الآتية . ( ثم روى له كيف أجرم الى فتاة أحبها ثم انتبذها فكتبت اليه تقول ) ...قتلت أمي و أبي , فقد علمت أنهما ماتا , و ما أحسب موتهما الا حزنا لفقدي , و يأسا من لقائي , قتلتني لأن ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك و الهم الطويل الذي عالجته بسببك , قد بلغ مبلغهما من جسمي و نفسي , فأصبحت في فراش الموت الذبالة المحترقة تتلاشى نفسا في نْفس , و أحسب أن الله قد صنع لي , واستجاب دعائي , و أراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء , الى دار الحياة و الهناء , فأنت كاذب خادع , و لصّ قاتل , و لا أحسب أن الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك . ما كتبت اليك هذا الكتاب لأجدد بك عهدا , أو أخطب لك ودّا فأنت أهوّن عليّ من ذلك , على أنني قد أصبحت على باب القبر و في موقف وداع الحياة بأجمعها , خيرها و شرها ,سعادتها و شقائها , فلا أمل لي في ودّ و لا متسع لعهد , و انما كتبت اليك لأن لك عندي وديعة و هي فتاتك , فان كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبل اليها و خذها اليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمّها من قبلها .
فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت اليه فرأيت دموعه تتحدر على خديه , فسألته : و ماذا تم بعد ذالك ؟ قال : اني ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي و خيّل اليّ أن صدري يحاول أن ينشق من قلبي حزنا و جزعا , فأسرعت الى منزلها و هو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن , فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها , و رأيت فتاتها الى جانبها تبكي بكاء مرّّا , فصعقت لهول ما رأيت و تمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي و حوش ضارية و أساود ملتفة , هذا ينشب أظافره و ذاك يحدّد أنيابه , فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشها و أموت موتها , ها أنا أموت اليوم راضيا مسرورا فقد حدثني قلبي أن الله غفر لي سيئاتي بما قسيت من العناء , و كابدت من الشقاء . و ما وصل من حديثه الى هذا الحدّ حتى انعقد لسانه و أكفهر و جهه و سقط على فراشه فأسلم الروح و هو يقول : ابنتي يا صديقي ! فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه , ثم كتبت لأصدقائه و معارفه فحضروا تشييع جنازته , و ما رئي مثل يومه يوم كان أكثر من باكية و باكيا .
ولما حثونا الترب فوق ضريحه
جزعنا و لكن أيّ ساعة مجزع
يعلم الله أني أكتب قصته , و لا أملك نفسي من البكاء و النشيج , و لا أنسى ما حييت نداءه لي و هو يودع نسمات الحياة و قوله "ابنتي يا صديقي!" .
فيا أقوياء القلوب من الرجال , رفقا بضعفاء النفوس من النساء ,انكم لا تعلمون حين تخدعهن عن شرفهن و عفتهن , أيّ قلب تفجعون , و أي دم تسفكون ! .



العين الساهرة