الذهن المتأمل ذهن صامت. غير أنه ليس الصمت الذي يمكن للفكر أن يتصوره؛ ليس صمت أمسية هادئة؛ إنه الصمت الذي يحل حين الفكر – بصوره وكلماته وإدراكاته كلِّها – يتوقف توقفًا تامًّا. هذا الذهن المتأمل هو الذهن المتديِّن – بمعنى الدين الذي لم تمسسْه الكنيسة أو المعابد أو الأناشيد.

الذهن المتديِّن هو تفجر المحبة. هي تلك المحبة التي لا تعرف الفَصْل. البعيد لديها قريب. إنها ليست الواحد أو الكثير، بل بالأحرى تلك الحال من المحبة التي يتوقف فيها كل انقسام. إنها – كالجمال – لا تخضع لمقاييس الكلمات. ومن هذا الصمت وحده يعمل الذهن المتأمل.

2

التأمل واحد من أعظم الفنون في الحياة – ولعله أعظمها طرا – وليس في إمكان أحدهم أن يتعلمه من أيِّ أحد – وذلك هو جماله. ليست له أية طريقة ولا أية مرجعية بالتالي. عندما تتعلم أمورًا عن نفسك، تراقب نفسك، تراقب كيف تمشي، كيف تأكل، ماذا تقول، الثرثرة، الكراهية، الغيرة – إذا وعيت ذلك كلَّه في نفسك، من دون أيِّ اختيار – فذلك جزء من التأمل.

كذا يمكن للتأمل أن يتم وأنت تجلس في باص أو تسير في الغابات المترعة بالنور والظلال، أو تنصت إلى غناء الطيور أو تحدق في وجه زوجتك أو طفلك.

3

ما أغرب الأهمية التي صار الناس يُضفونها على التأمل! التأمل لا نهاية له، ولا بداية. إنه مثل قطرة المطر: في تلك القطرة توجد الجداول كلها، الأنهار العظيمة، البحار، وشلالات المياه. تلك القطرة تغذي الأرض والإنسان. من دونها تغدو الأرض صحراء. من دون التأمل يغدو القلب صحراء، أرضًا يبابًا.

4

التأمل هو اكتشاف ما إذا كان يمكن للمخ، بنشاطاته كلِّها، وبتجاربه كلِّها، أن يهدأ هدوءًا مطلقًا. ليس قسريًّا، لأنك حالما تقسر ثمة ثنائية. فالكيان الذي يقول: "أود أن أحصل على تجارب رائعة، ولهذا يجب أن أحْمِل مخِّي على الهدوء" – كيان كهذا لن يستطيع أن يفعل ذلك أبدًا. لكنك إذا بدأت تستقصي، ترصد، تصغي إلى حركات الفكر كافة، إشراطه، مساعيه، مخاوفه، ملذاته، فتراقب كيف يعمل المخ – إذ ذاك سوف ترى أن المخ يصير خارق الهدوء؛ وذلك الهدوء ليس النوم، لكنه نشاط هائل، وبالتالي، هادئ. الدينامو الضخم الذي يعمل بإتقان يكاد أن لا يصدر صوتًا؛ فقط حين يوجد احتكاك يصدر ضجيج.

5

الصمت والرحابة متلازمان. شساعة الصمت هي عينها شساعة الذهن الذي لا يوجد فيه مركز.

6

التأمل عمل شاق. إنه يتطلب أرقى أشكال الانضباط – ليس الانصياع، ليس التقليد، ليس الطاعة – بل انضباط يأتي عبر الانتباه الدائم، ليس إلى الأشياء من حولك خارجيًّا وحسب، بل داخليًّا أيضًا. من هنا فإن التأمل ليس نشاطًا عازلاً، بل هو فعلٌ في الحياة اليومية يتطلب التعاون والحساسية والفطنة. فمن دون وضع أساس لحياة مستقيمة، يصير التأمل هروبًا، وبالتالي، لا قيمة له أيًّا تكن. والحياة المستقيمة ليست التقيد بالآداب الاجتماعية، بل التحرر من الحسد والجشع والسعي إلى السلطة – وكلُّها ينسل العداوة. التحرر من هذه لا يأتي عبر نشاط إرادي، بل بالانتباه إليها عبر معرفة النفس. فمن دون معرفة نشاطات النفس، يصير التأمل مجرد استثارة حسية، وبالتالي، غير ذي مغزى يُذكَر.

7

السعي دومًا إلى تجارب أوسع، أعمق، تجارب تجاوُزية، هو شكل من أشكال الهروب من الواقع الفعلي لـ"ما هو موجود" – وهو نحن، ذهننا المشروط نحن. الذهن اليقظ، الفطين، الحر – ما حاجته إلى أية "تجربة"، ما العلة من تحصيله لأية "تجربة" أصلاً؟ النور هو النور؛ إنه لا يطلب نورًا أكثر.

8

التأمل واحد من أكثر الأشياء خَرْقًا للعادة، وإذا لم تكن تعرف ما هو فأنت أشبه بالأعمى في عالم من الألوان الساطعة والظلال والضوء المتحرك. إنه ليس قضية فكرية، ولكنْ حين يلج القلبُ في الذهن، يتصف الذهنُ بخاصية مختلفة تمامًا؛ إنه يكون، حينئذٍ، غير محدود حقًّا، ليس في قدرته على التفكير وعلى العمل بفعالية وحسب، بل كذلك في شعوره بالحياة وسط فضاء شاسع تكون فيه جزءًا من كلِّ شيء.

التأمل هو حركة المحبة. إنها ليست محبة الواحد أو الكثير. فهي أشبه بماء يستطيع أي أحد أن يشربه من أية جرة، من ذهب كانت أم من تراب: إنه لا ينضب. ويحدث شيء عجيب، ما من عقار ولا من تنويم ذاتي يمكن له أن يستجلبه: فكأن الذهن يلج في ذاته، بادئًا بالسطح، ثم سابرًا أعمق فأعمق، حتى يعدم العمقُ والعلوُّ معناهما وتتعطل أشكالُ القياس كافة. في هذه الحال يستتب سلامٌ تام – ليس الرضا الحاصل من خلال الإثابة – بل سلام يتصف بالنظام والجمال والكثافة. بالإمكان تدميره كله، مثلما يمكن لك أن تدمِّر زهرة؛ ومع ذلك، بسبب هشاشته نفسها، فهو غير قابل للتدمير. هذا التأمل لا يمكن لأحد أن يتعلمه من غيره. عليك أن تبدأ من غير أن تعرف شيئًا عنه، وتتحرك من براءة إلى براءة.

التربة التي يمكن للذهن المتأمل أن ينبت فيها هي تربة الحياة اليومية – الكفاح، الوجع، والفرح الهارب. يجب أن يبدأ هناك، فيجلب النظام، ومنه يتحرك إلى ما لا نهاية. لكنك إذا كنت مهتمًّا باستتباب النظام وحسب، إذ ذاك فإن ذلك النظام بعينه سوف يستجلب محدوديته نفسها، والذهن سوف يصير سجينًا لها. في هذه الحركة كلِّها عليك أن تبدأ، على نحو ما، من الطرف الآخر، من الضفة الأخرى، ولا تهتم دومًا بهذه الضفة أو بكيفية عبورك للنهر. عليك أن تجرؤ على الغطس في الماء، من دون أن تعرف كيفية السباحة. وجمال التأمل في أنك لا تدري أبدًا أين أنت، إلى أين أنت ماضٍ، وما هي النهاية.

9

التأمل ليس شيئًا مختلفًا عن الحياة اليومية. فلا تنتبذ مكانًا في زاوية غرفة وتتأمل مدة عشر دقائق، ثم تخرج منها وتكون جزارًا – مجازًا وفعليًّا معًا.

التأمل أمرٌ من أكثر الأمور جدية. بمقدورك أن تقوم به النهار كلَّه، في المكتب، مع الأسرة، حين تقول لأحدهم "أحبك"، حين تعتني بأطفالك. لكنك من بعدُ تربِّيهم على أن يصيروا جنودًا، على القتل، على القومية، على عبادة العَلَم، تربيهم على الوقوع في فخِّ العالم الحديث هذا.

رصدُك هذا كلَّه، وإدراكُك إسهامَك فيه – ذلك كله جزء من التأمل. وحين تتأمل على هذا النحو ستجد في ذلك جمالاً خارقًا؛ سوف تفعل على الوجه السليم في كلِّ لحظة. وإذا لم تفعل على الوجه السليم في لحظة معينة لا تبالِ؛ فسوف تواصل من حيث توقفت – لن تضيِّع الوقت في الندم. التأمل جزء من الحياة، وليس شيئًا مختلفًا عن الحياة.

10

إذا عقدت العزم على التأمل، فهذا لن يكون تأملاً. إذا نويت أن تكون طيبًا، فالطيبة لن تزهر أبدًا. إذا روضت نفسَك على التواضع، فهو يكف عن أن يكون. التأمل هو النسمة التي تدخل حين تترك النافذة مفتوحة؛ لكنك إذا تعمدت تركها مفتوحة، تعمدت دعوتها إلى المجيء، فلن تظهر أبدًا