هاج الجفاف في الألفاظ ، فلا رطوبة في الكلمات ، جفاف ، أشواك ترقص في كل مكان ، ولا اتجاه الى غاية ملأى بالماء . جف ريق الأبتسامة ، فأين الطريق الى الماء ؟ . ذهبت الرطوبة من الايماءات والهمسات والاشارات ، لا بحر ، لا شاطىء ، لا شمس ، لا سهل ، لا حركة في الهواء ، لا مطر .. ما أظلم النهار في عيون لا ترى الماء .
دار الجفاف دورته في الأنفاس ، ملأ فضاء الأفعال والأقوال ،غطى أفق الارادة ، وتربع في الابتسامة ، في بريق العين ، في منازل المحبة ، وبات الظامىء الى الماء ، وقد تدلى له الماء بين عينيه ، فلا ينزل على شفتيه ، ولا يمكنه أن يطاله بطرف لسانه ، يتماثل ما تقع عليه عيناه من مشاهد ، قد مشى فيها الجفاف ، على أنها مقبرة تحت جلد حركة . قبور تلعب وتلهو ، فكل نزل تحت جلده ، واستوطن هناك ، ولا هم يتجاوز به حدود جلده .
فلا حياء ولا ماء في مودة أو علاقة . استوت العلاقات ، على يبس ، حركة واحدة وتنكسر ، فلا علاقة بين الموتى ، انتهت الروابط الى تسارع في التباعد عن أطرافها . مساحات تمتد وتترامى ، تحت وطأة الجفاف .تصدعت الأرض وتوالدت الشقوق فيها ، انتشرت ، فلا تكاد تقوى على تجاوز صدع ، حتى يليه آخر يماص منك قدرتك على الخطو الى الأمام ، تلعب الشقوق لعبة الاستنقاع في المكان ، كأنما الجفاف ظروف استولاد لقبور فاغرة فاها .. حركة واحدة تحت السطح ، ولا يبقى سوى الذباب ، يبحث عن الحياة في بقايا انسان ... اني وجفاف الطريق ، ينال مني ، ويزرع لي الشقوق في شفتي ، وفي لساني ، وتكاد الحسرة تمزق مني فؤادي ، وأصابع الجهل تقلصني في كل مكان ، وتكاد تهدمني ، تحطمني ، تخسرني زماني وترابي ، أعلل نفسي في قطرة ماء ، تبعث خضرة ، نضرة ، فأبحث عن الماء في أوراق الشجر ، في حفيف الأشجار ، في زقزقة عصفور ، في زغرودة ، في الآهات في الهموم والأحزان ، في عكاز طاعن في السن ، يرسم لي على التراب ، طريق العودة الى الابتسام .. يا بني الابتسامة ، حكاية كرامة ، قصة شهامة ، صحوة وعافية ، نخيل يطعم الضائع في الصحراء .. ماء في واحة ينادي اليه الحياة. تعال معي الى القبر فمن هناك نعرف كيف نرسم ابتسامة على وجه الحياة. تعال رافقني ، فوعورة الدرب تتطلب أن تسندني فتزيد في بأسي ، وفي وعي أنفاسي ، فأنفاس الحياة حين تلتقي تقوى ، تشتد في كفاحها ضد الجفاف .
نحن في زمن ، يأكل فيه الجفاف زماننا ، يطوقه ، يبعث العطش في أرجائه ، فلا درب الى الماء ، الى الابتسام ، الا بالقبض على الجمر ، بالمشي على الشوك ، في الصبر ، وقت السير ، على اجتراع مرارة الجفاف .
سقط الذين سقطوا ، كيف لا يسقط ، من جرى له اليبس في عروقه ، بعدما تبخر الماء . هل رأيت عودا أخضر ، بلا ماء . هل رأيت زهرة تتفتح ، وقد جف من ترابها ، ومن ساقها وأوراقها الماء . حياة بلا ماء جفاف . جف الماء ، ولا مفر من الماء . من أين يأتي العطر ؟ كيف يتكون ، ويعبق في الأنفاس ، فيما لو جفت الزهور ، ولم تبق منها ورقة خضراء في البستان . ماذا يفعل النحل ، اذا لم يجد رحيقا ، ولا زهور ، ولا ما يبحث عنه في الحقول . أما سمعت عن نحل قد جف ، وأصبح بعض جفاف ، وبدلا عن انتاجه عسلا ، أصبح ينتج جفافا . ألم يقل العطر ، بأنه بعد أن لم يجد منابته ، قد فارق رقته، وراح يتكلم لغة الجفاف . أما اعتذرت الأزهار عن عطرها ، وقالت بأنها جفت ، حين لم تجد حولها ، سوى دبيب أمعاء ، قنوات هضمية ، تهضم بلا حدود ، معصرة تعصر الصخور ، فلا تترك فيها حبة ماء ، فكيف لا تجف الجذور ، اذا لم تجد حتى في الصخور قطرة ماء .
هات يدك يا بني ، وانهض من مكانك ، واستقبل أحلامك ، بمقدار ما تقتضيه الأحلام ، فبعض الماء فيك ، يكفيك لكي تزلزل الجبال وتنقلها من ملاعبها ، التي تحترف فيها صنعة الجفاف ، فمهما بلغت مساحات الملاعب التي تهب فيها عناصر الجفاف ، فان هناك حياة ، حيث لا جفاف ، وقد كان عبر الزمان جفاف يبعث في الأزهار ذبولا وعذابا ، وكانت عذوبة الماء ، في مجرى النهر أقوى من كل يباب ويبس وجفاف . قم واستخرج النهر من جوف الأرض ، فعذوبة الماء ، والتراب وما فيه من بذور ، نوى ، لم تر بعد الهواء .. أسباب حين اجتماعها تولد في بطن الأرض حياة
المفضلات