السَّعادة.. الغاية والإدراك !!
الرغبة في السَّعادة شأن فطري جُبلت عليه كلُّ نفس ، لكنها ليست واحدة في كل نفس ، فهي متعدِّدة الرؤى والمفاهيم . يعرِّفها بعض من كتبوا عنها بأنها" تتحقق على مستوى الفرد عن طريق العلم والعمل"، ويراها آخرون بأنها " تتحقق عن طريق الحصول على جميع الملذات التي ترغب فيها النفس الإنسانية "وآخرون بأنها " تتم حال سيطرة النَّفس على قوى الجسم المادية والتَّحكم فيها " وغيرهم أنها " تتم في هذه الحياة الدنيا "، بينما يرى سواهم أنَّها " تتم حقيقة في الدَّار الآخرة بعد الانتقال من هذه الدنيا ، وسوف يحوزها بعض الناس دون غيرهم"... والسعادة في نظري تتحقق - بالإضافة لما سبق - في مقابلة الذَّات بالذَّات التي تشبهها ؛ ليس كذلك بل التي تطابقها حتى يبدوان وكأنهما ذاتٌ واحدةٌ ، ولو كانتا شريرتين ؛ فالسَّعادة النَّابعة - بغض النَّظر عن كينونتها - مكمنها التَّلاقي والانصهار المتبادل دون النَّظر إلى التَّصرفات الفردية أو الجماعية أحيانًا. والأجمل والأصدق والأجدر بالمثل أن تكونا طيبتين صافيتين منزَّهتين من كل عيب ، والأكثر قيمة ألاَّ يكون التَّلاقي مكللاً بمجانية النَّعيم وترف الصُّدف ، أو منغمسًا في نصَبٍ لم يمسسه لغوب . ومنطقي أنَّ للصدف شأنًا مهمًا ، ولكن ليست الصدف العابرة ، فالأحق بالثناء تلك الصُّدف التي تفضي إلى سعادة الرُّوح ، ولكن لا ينبغي أن نوكل رمة الأمر إليها في رحلة العلائق العظيمة ؛ فلزامًا أن تبدأ الرِّحلة من القاع إلى السَّطح ، ومن العمق حتى الشَّاطئ ، وألاَّ نبتعد كثيرًا ونغفل أصل التَّكوين ، وأن ندرك أبدا أن الكُلَّ ينفلق عن بذرة ، ولكن التَّساؤل القائم أين تتلاشى البذرة بعد انفلاقها . بعد أن تكون هيكلاً عظيمًا يبلغ عشرات الأمتار علوًا ومثلها محيطًا ..؟ !! ومثلها مثل الصِّفر الذي يتلاشى عند ضربه في رقم آخر كالخمسة – مثلاً - بل أين تتلاشى الخمسةُ ذاتهُا أليس الصِّفر أصلاً ؟ أليست الخمسة أصلاً ؟ أليست البذور أصلاً ؟. ثُمَّ ألا يقال: إنَّ الأصلَ ثابت وكلَّ شيء يعود إلى أصله .
الحقيقة الرَّاسخة المدركة تتجلى في أن الإنسان وحده يعود لأصله ليذوب فيه مجددًا تهيُّؤًا لرحلة جديدة لكنها أبدية هذه المرة .
إنَّ النُّور الذي يشع من بعيد وسط المحيط المظلم يظل أكثر إثارة للطمأنينة حتى وإن بقي بعيدًا ، فالغاية الأسمى أن يبقى مشعًا تدركه الحواس لا أن تحتويه، حتمًا سَيُشْعِرُ بدفءِ الأمن والأمل وهما بداية درب السَّعادة وغايتها ومنتهاها , تمامًا كمثل أي أمرٍ تشتهيه أو ترغبه ولا تدركه سيكفيك توهجه في نفسك ، في ذاتك يخامر عقلك ، يسامر خلجات نفسك ، يتراءى في أفق وجودك ، يلج كل حينٍ حافظة خيالك ، ينساب مع جداول فكرك فيتضوع في كُلِّ كيانك ليعطي مذاقًا خاصًا للسَّعادة التي تتجلى الصُّورة المثلى لتكثفها في غياب جزئية منها تشكل بؤرة السعي الحثيث لنيل المبتغى ، وكلما كان النَّول أصعب كان الإلحاح أكثر حدًّة ، ليكون المؤثر أكثر فاعليةً وتكون السَّعادة أشهى طلبًا ، حينها فقط تنشأ لذة الألم مكمن الطَّلب ، التي يُمنحُ المرءُ بموجبها وسام السَّعادة عن استحقاق .
يشكل تعدد مكونات السَّعادة فارقًا في أشكالها ، وقد يجعل منها سببًا مباشرًا في تكوُّن المقابل السِّلبي لها ؛ فالطَّير الجارح الذي يحلق لساعات ، ويديم النَّظر بثبات بغية اقتناص عصفور أوقعته منيته في مجال حاجته ، يشكل له نجاحه في أداء مهمته سعادة بالغة ، بينما تشكل هذه السَّعادة تعاسةً وشقاءً للطرف الآخر ، وكذلك الأسد الذي يقضي زمنًا في التَّربص ، ومثله أو أكثر في المطاردة ، تكمن سعادته في الظَّفر بهذه الطَّريدة ، وفي الحين ذاته تتكوَّن على ضفاف هذه السَّعادة النِّهاية الحزينة للطَّريدة وإن كانت غزالاً رقيقًا بريئًا . إنَّ براءته لم تفلح في درء الخطر عنه ؛ لأن في ذلك سعادة الآخر.
وينطبق الأمر ذاته على الكائن الحي الذي يتمتع بالعقلانية (الإنسان) ؛ فالمجرم الذي يخطط لجريمته ولا يعبأ بعبء التَّرصد ، حين يتمكن من تنفيذها دون أن يُكتشَف أمرُه تلفُه نشوى تَحَقُقِ المراد الذَّاتي المتمثل في سفك دم بريء ، ويشرب نخب سعادته – المزيفة في نظر المنطق وفي نظر الآخرين – حتى الثُّمالة ، في المقابل يشكل التَّوصُّل للجاني سعادة للطرف الآخر ؛ كانت المأساة قد غيبتها.
ويشكل المخزون الهائل والمختلط من التَّصرفات والأحداث وحتى الأفكار المكوِّن الرئيس لحياة الفرد ، والموجِّه لمسيرته ؛ فالأفعال النَّاتجة عنه ، أو الواقعة عليه وردودها تشكل المموِّل لنمط وجوده ؛ لأن بقاءها في رصيد الذِّكريات قابل للاسترجاع في أي لحظة ، وبما أنها قابلة للاسترجاع حتمًا ستكون ذات تأثير في الحاضر ، وفي المستقبل الذي يحدده – غالبًا- الفعل الآني ، وبالتأكيد سيكون مع دورة الحياة ضربًا من الماضي . ويؤدي هذا المزج وهذا التَّعدد وهذا التَّعاقب إلى تَخَثُّرِ العاطفة التي تتأثر بالمحيط كما يتأثر جبل الرَّمل بحركة الرِّيح ووجهتها ، فبقاء العاطفة على حال معينة ضرب من الوهم ، إذ إنَّها رهن بناتج الأفعال ونوعها ، وبالفاعلين وبالمفعول بهم وفيهم ومعهم . والسِّياق العام للحياة يثبت - بما لا يُبقي مجالاً للشَّك - سعي كلِّ مَنْ في الكون لنيل هذا المطلوب الغالي ، ولكن الواقع يثبت تعدد الرؤى والتَّأويلات بحسب تعدد حالات المخلوقات ؛ فقطف وردة يُسعد القاطف لكنه في الوقت عينه يُدمي المقطوف.
وبما أنَّ إدراك الكمال قصر على بعض الثوابت : وجود الله ووحدانيته والبعث واليوم الآخر والحساب وما في حكمها .. فإن السعادة شيء نسبي لا يدرك تمام الإدراك ولا يُنال حسب الطَّلب ، أو حين الحاجة إليه ؛ لأن السَّعادة ببساطة ليست ربيبة الرَّغبة ، ولن تكون حليفًا للنزوات .
وتبقى النَّفس البشرية حائرةً بين الانجذاب إلى ، والنفور مِنْ . ويبقى سعيُ المرء دائمًا وحثيثًا لمقابلة ذاتٍ تركن إليها ذاتُه ، وتلقى فيها مؤنسًا مماثلاً ، ينبذان سويًا كُلَّ نابٍ ، ويُثلَجان لكُلِّ طيِّبٍ وإنْ نَدر، وينجذبان فطريًا ولو دون إرادة ودونما غاية ؛ وهذه غاية الإدراك..