الرغبة في السَّعادة شأن فطري جُبلت عليه كلُّ نفس ، لكنها ليست واحدة في كل نفس ، فهي متعدِّدة الرؤى والمفاهيم . يعرِّفها بعض من كتبوا عنها بأنها" تتحقق على مستوى الفرد عن طريق العلم والعمل"، ويراها آخرون بأنها " تتحقق عن طريق الحصول على جميع الملذات التي ترغب فيها النفس الإنسانية "وآخرون بأنها " تتم حال سيطرة النَّفس على قوى الجسم المادية والتَّحكم فيها " وغيرهم أنها " تتم في هذه الحياة الدنيا "، بينما يرى سواهم أنَّها " تتم حقيقة في الدَّار الآخرة بعد الانتقال من هذه الدنيا ، وسوف يحوزها بعض الناس دون غيرهم"... والسعادة في نظري تتحقق - بالإضافة لما سبق - في مقابلة الذَّات بالذَّات التي تشبهها ؛ ليس كذلك بل التي تطابقها حتى يبدوان وكأنهما ذاتٌ واحدةٌ ، ولو كانتا شريرتين ؛ فالسَّعادة النَّابعة - بغض النَّظر عن كينونتها - مكمنها التَّلاقي والانصهار المتبادل دون النَّظر إلى التَّصرفات الفردية أو الجماعية أحيانًا. والأجمل والأصدق والأجدر بالمثل أن تكونا طيبتين صافيتين منزَّهتين من كل عيب ، والأكثر قيمة ألاَّ يكون التَّلاقي مكللاً بمجانية النَّعيم وترف الصُّدف ، أو منغمسًا في نصَبٍ لم يمسسه لغوب . ومنطقي أنَّ للصدف شأنًا مهمًا ، ولكن ليست الصدف العابرة ، فالأحق بالثناء تلك الصُّدف التي تفضي إلى سعادة الرُّوح ، ولكن لا ينبغي أن نوكل رمة الأمر إليها في رحلة العلائق العظيمة ؛ فلزامًا أن تبدأ الرِّحلة من القاع إلى السَّطح ، ومن العمق حتى الشَّاطئ ، وألاَّ نبتعد كثيرًا ونغفل أصل التَّكوين ، وأن ندرك أبدا أن الكُلَّ ينفلق عن بذرة ، ولكن التَّساؤل القائم أين تتلاشى البذرة بعد انفلاقها . بعد أن تكون هيكلاً عظيمًا يبلغ عشرات الأمتار علوًا ومثلها محيطًا ..؟ !! ومثلها مثل الصِّفر الذي يتلاشى عند ضربه في رقم آخر كالخمسة – مثلاً - بل أين تتلاشى الخمسةُ ذاتهُا أليس الصِّفر أصلاً ؟ أليست الخمسة أصلاً ؟ أليست البذور أصلاً ؟. ثُمَّ ألا يقال: إنَّ الأصلَ ثابت وكلَّ شيء يعود إلى أصله .السَّعادة.. الغاية والإدراك !!
الحقيقة الرَّاسخة المدركة تتجلى في أن الإنسان وحده يعود لأصله ليذوب فيه مجددًا تهيُّؤًا لرحلة جديدة لكنها أبدية هذه المرة .
إنَّ النُّور الذي يشع من بعيد وسط المحيط المظلم يظل أكثر إثارة للطمأنينة حتى وإن بقي بعيدًا ، فالغاية الأسمى أن يبقى مشعًا تدركه الحواس لا أن تحتويه، حتمًا سَيُشْعِرُ بدفءِ الأمن والأمل وهما بداية درب السَّعادة وغايتها ومنتهاها , تمامًا كمثل أي أمرٍ تشتهيه أو ترغبه ولا تدركه سيكفيك توهجه في نفسك ، في ذاتك يخامر عقلك ، يسامر خلجات نفسك ، يتراءى في أفق وجودك ، يلج كل حينٍ حافظة خيالك ، ينساب مع جداول فكرك فيتضوع في كُلِّ كيانك ليعطي مذاقًا خاصًا للسَّعادة التي تتجلى الصُّورة المثلى لتكثفها في غياب جزئية منها تشكل بؤرة السعي الحثيث لنيل المبتغى ، وكلما كان النَّول أصعب كان الإلحاح أكثر حدًّة ، ليكون المؤثر أكثر فاعليةً وتكون السَّعادة أشهى طلبًا ، حينها فقط تنشأ لذة الألم مكمن الطَّلب ، التي يُمنحُ المرءُ بموجبها وسام السَّعادة عن استحقاق .
يشكل تعدد مكونات السَّعادة فارقًا في أشكالها ، وقد يجعل منها سببًا مباشرًا في تكوُّن المقابل السِّلبي لها ؛ فالطَّير الجارح الذي يحلق لساعات ، ويديم النَّظر بثبات بغية اقتناص عصفور أوقعته منيته في مجال حاجته ، يشكل له نجاحه في أداء مهمته سعادة بالغة ، بينما تشكل هذه السَّعادة تعاسةً وشقاءً للطرف الآخر ، وكذلك الأسد الذي يقضي زمنًا في التَّربص ، ومثله أو أكثر في المطاردة ، تكمن سعادته في الظَّفر بهذه الطَّريدة ، وفي الحين ذاته تتكوَّن على ضفاف هذه السَّعادة النِّهاية الحزينة للطَّريدة وإن كانت غزالاً رقيقًا بريئًا . إنَّ براءته لم تفلح في درء الخطر عنه ؛ لأن في ذلك سعادة الآخر.
وينطبق الأمر ذاته على الكائن الحي الذي يتمتع بالعقلانية (الإنسان) ؛ فالمجرم الذي يخطط لجريمته ولا يعبأ بعبء التَّرصد ، حين يتمكن من تنفيذها دون أن يُكتشَف أمرُه تلفُه نشوى تَحَقُقِ المراد الذَّاتي المتمثل في سفك دم بريء ، ويشرب نخب سعادته – المزيفة في نظر المنطق وفي نظر الآخرين – حتى الثُّمالة ، في المقابل يشكل التَّوصُّل للجاني سعادة للطرف الآخر ؛ كانت المأساة قد غيبتها.
ويشكل المخزون الهائل والمختلط من التَّصرفات والأحداث وحتى الأفكار المكوِّن الرئيس لحياة الفرد ، والموجِّه لمسيرته ؛ فالأفعال النَّاتجة عنه ، أو الواقعة عليه وردودها تشكل المموِّل لنمط وجوده ؛ لأن بقاءها في رصيد الذِّكريات قابل للاسترجاع في أي لحظة ، وبما أنها قابلة للاسترجاع حتمًا ستكون ذات تأثير في الحاضر ، وفي المستقبل الذي يحدده – غالبًا- الفعل الآني ، وبالتأكيد سيكون مع دورة الحياة ضربًا من الماضي . ويؤدي هذا المزج وهذا التَّعدد وهذا التَّعاقب إلى تَخَثُّرِ العاطفة التي تتأثر بالمحيط كما يتأثر جبل الرَّمل بحركة الرِّيح ووجهتها ، فبقاء العاطفة على حال معينة ضرب من الوهم ، إذ إنَّها رهن بناتج الأفعال ونوعها ، وبالفاعلين وبالمفعول بهم وفيهم ومعهم . والسِّياق العام للحياة يثبت - بما لا يُبقي مجالاً للشَّك - سعي كلِّ مَنْ في الكون لنيل هذا المطلوب الغالي ، ولكن الواقع يثبت تعدد الرؤى والتَّأويلات بحسب تعدد حالات المخلوقات ؛ فقطف وردة يُسعد القاطف لكنه في الوقت عينه يُدمي المقطوف.
وبما أنَّ إدراك الكمال قصر على بعض الثوابت : وجود الله ووحدانيته والبعث واليوم الآخر والحساب وما في حكمها .. فإن السعادة شيء نسبي لا يدرك تمام الإدراك ولا يُنال حسب الطَّلب ، أو حين الحاجة إليه ؛ لأن السَّعادة ببساطة ليست ربيبة الرَّغبة ، ولن تكون حليفًا للنزوات .
وتبقى النَّفس البشرية حائرةً بين الانجذاب إلى ، والنفور مِنْ . ويبقى سعيُ المرء دائمًا وحثيثًا لمقابلة ذاتٍ تركن إليها ذاتُه ، وتلقى فيها مؤنسًا مماثلاً ، ينبذان سويًا كُلَّ نابٍ ، ويُثلَجان لكُلِّ طيِّبٍ وإنْ نَدر، وينجذبان فطريًا ولو دون إرادة ودونما غاية ؛ وهذه غاية الإدراك..
المفضلات