بسم الله الرحمن الرحيم :::...
اليوم يوم الله على الارض «وكل الايام ايام الله» ، حيث تلتحم الارض بالسماء ، على صعيد عرفات الله.
في هذا اليوم ، يقف المسلمون على عرفات وقد جاؤوا من كل فج عميق ، ليلبوا ربهم الواحد ولينادوه وحده.
في موقف الحج هذا ينبهرالعالم كله من هذا التمازج العظيم بين المسلمين ، فلم يكن عبثا ان يقرر الله تعالى ركن الحج على المسلمين المقتدرين مرة في العمر ، وكأنه يمنح لعباده فرصة الولادة مرتين ، حيث يعود الحاج مغتسلا من الذنوب كيوم ولدته امه.
في هذا اليوم ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قواعد تنظيم التعامل في المجتمع الاسلامي ، عندما قال:
«ايها الناس اسمعوا قولي ، فانني لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا ، ايها الناس ان دماءكم واموالكم «وفي رواية اخرى اعراضكم» عليكم حرام الى ان تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وانكم ستلقون ربكم فيسألكم عن اعمالكم وقد بلغت ، فمن كان عنده امانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها ، وان كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله انه لا ربا ، وان ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله ، وان كل دم كان في الجاهلية موضوع وان اول دمائكم اضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ، فهو اول ما ابدأ به من دماء الجاهلية..».
والحج لم يكن يوما من الايام ، ولن يكون مجرد عبادة شكلية ترتبط بأفعال واقوال ، وانما هو في جوهره فعل حركي من اهم ما جاء به الاسلام ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افضل الايام يوم عرفة اذا وافق يوم الجمعة فهو افضل من سبعين جمعة من غير يوم الجمعة وافضل الدعاء دعاء يوم عرفة وافضل ما قلت انا والنبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له".
والحج في جميع مظاهره هو صيحة الانسانية قاطبة في الدعوة الى التوحيد ومقارعة الكفار وارتباط ذلك بدعوة الانبياء عليهم السلام وصولا الى دعوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
على عرفات وفي هذا اليوم ، فان القلب ليهتز حقا وهو يستشعر الحركية الهائلة في هذا المشعر العظيم والموقف الرهيب ، الموحي بشتى المشاعر الانسانية المنسجمة مع ارادة الله تعالى بوجوب محاربة الكفر ومقارعته في كل زمان ومكان.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله "هنالك تتنفس الانسانية التي خنقها دخان البارود وعلامات الحدود وسيد ومسود وعبد ومعبود وتحيا في عرفات حيث لا كبير ولا صغير ولا عظيم ولا حقير ولا غني ولا فقير ، ولا امير ولا مأمور ، هنالك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب الا في ادمغة الفلاسفة وبطون الاسفار ، فتزول الشرور وترتفع الاحقاد وتعم المساواه ويسود السلام".
في عرفات وفي مثل هذا اليوم ، وقف سيد الخلق عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع يعلن حقوق الانسان ويقرر مبادىء السلام وينشر الاخوة والعدالة بين الناس قبل ان ينشرها الغرب بألف عام.
في الحج تجتمع ثنائية الموت والحياة ، فبعد كل محطة من محطات هذه الرحلة الايمانية ، تنظر مندهشا الى التمازج الغريب بين لحظة تعلن فيها اقبالك على برزخ جديد ، تبدأ فيه ولادتك ، وبين لحظة اخرى تتأمل فيها عروجك الى دار مختلفة ، تذكرك بها الملاءات التي يلتف بها جسدك ، وكأنها الاكفان وحشود الملايين الذين ترتفع اصواتهم بلغة واحدة ومن فوق صعيد واحد وحول اماكن هي ذاتها ، مرددين "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك" مستلهمين لحظة بدء الحياة على هذه الارض المباركة ، حين التقى آدم بحواء وظلت ذات الولادة تتكرر مع سيدنا ابراهيم عليه السلام ، حين همّ بذبح ولده اسماعيل لتكون مشيئة الله تعالى بولادته مرة ثانية ، هي النافذة حين استبدل التضحية الكبرى بذبح سمين ، ومع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في اكثر من موقع ومناسبة ، حيث كانت الولادة الشاملة منطلقا لانبعاث رسالة الاسلام للبشر اجمعين.
في يوم الحج الاكبر هذا ، تتجلى صورة الاسلام ورسالته العظيمة للعالمين ، رسالة السماحة والعدل والمساواة ، في هذا اليوم يستشعر المسلمون حجم خسارتهم وخيبتهم يوم ابتعدوا عن الصراط الذي اراده لهم خالقهم ، عبر رسالته الى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي مثل هذا اليوم ، اعلن عليه الصلاة والسلام انتهاء الرحلة النبوية ، بقول الله تعالى «اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا» ، حيث انخلع قلب ابي بكر رضي الله عنه ، لانه فهم من الاشارة ان الرسول عليه السلام يودع امته.
اليوم يتباهى رب العزة والجلال بعباده ، حيث ورد في الحديث الشريف «هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي ، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها ، افيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه».
فلتفسد الارض ولتطغ الشرور وليعصف الحديد ولتغص الانسانية على حمأة الرذيلة الى العنق ، فانه لا خوف على الفضيلة ولا على الحق ولا على السلام ما دام في الارض عرفات ، ولبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك،رغم انف كل جاحد.
بقلم : محمد حن التل ( جزاه الله الجنة برحمته )
المفضلات