الثورات العربية الحالية وفى قلبها الثورة المصرية العظيمة تكاد تكون فريدة من نوعها على مدار التاريخ الثورى لشعوب العالم، فلا يستطيع مراقب مبتدئ أن يتجاهل دور التقنية الحديثة وخاصة مواقع التواصل الاجتماعى بالشباب من مرحلة الرفض الفردى إلى الرفض الجماعى بل الجماهيرى.

وأيضا أصبح اليوتيوب وقنواته يقوم بتحويل الشائعات والشكوك إلى حالة تلبس وإثبات بالصوت والصورة، ولعلك تذكر كثيرا من الفيديوهات المستفزة للتعذيب والتحرش والإهانة فى أقسام الشرطة للمواطنين، ومن أشهرها فيديو المواطن عماد الكبير، كل تلك الوقائع تم إثباتها جميعا فى محضر اليوتيوب، بالإضافة إلى حالات التزوير الجماعى بحراسة وأوامر الشرطة فى الانتخابات الأخيرة التى كان لشبكة رصد الفضل فى تصويرها وإثباتها وتناقلها لعشرات المواقع.

ما ذكرته سالفا كان على سبيل المثال وليس الحصر، لدرجة أن أحد خبراء الإنترنت أراد أن يسدى لى نصيحة، فمال على أذنى وقال لى بلهجة الخبير العارف بالأمور وبصوت خفيض، (إبقى خد بالك من أحلامك، ماتنساش نفسك، اليوتيوب مابيرحمش)، ورغم إنى لسه ما أخدتش بالى من نصيحته، لكن أتمنى إن شبابنا ياخد باله من أمرين، واحد فيهم مهم جدا، والتانى مهم فقط.

أبدأ بالمهم فقط، نعم لا ننكر أبداً دور هذه التقنيات التكنولوجية فى ثوراتنا، ولكنها ليست الأهم فى نجاح ثورتنا، خاصة أن العم الأمريكى لا يترك مناسبة إلا ويذكرنا بعطاياه التكنولوجية التى أنجحت ثوراتنا، دا على أساس إن دموعه المنهمرة دى دموع فرحة لينا مش حاجة تانى لا سمح الله، هذا ما يسعون لنشره وتأصيله فى عقولنا ونفوسنا ليزرعوا فيها أننا لا نزال كوكبا تابعا لشمسهم، ولسان حالهم يقول "أنتم من غيرينا ماكنتوش نجحتم"، رغم أنهم يتناسون أن دور الإدارة الأمريكية المصدر للتكنولوجيا لا يزيد عن دور النظام المصرى السابق المستورد لها، فلا فضل لغربى على عربى إلا بالثورة، وإن كان هناك دور فإنه للشعب الأمريكى المبتكر وليس حكومته، فأنا أحسن الظن دائما بالشعوب، وأسىء الظن غالبا بحكوماتهم.

ولو سلمنا بمنطقهم فإن دور صانعى التكنولوجيا كدور صانعى البيانو الجيد الذى يستخدمه عمر خيرت فالأهم من التقنية الشعب الراقى الذى يعزف عليها بإبداع، لهذا أضم صوتى لكثير من المثقفين الذين يحذروننا من الشعور بالنقص والإحساس بأنهم يمنون علينا بابتكاراتهم، بل نحن نمن عليهم أن جعلنا لها قيمة لن ينساها التاريخ، وننبههم أنه ليس بال فيس بوك وحده تقوم الثورات.. ارفع راسك فـوووق... أنت مصرى.


الأمر الثانى.. وهو الأهم.. أخشى أن يكتفى الشباب أبطال الثورات العربية بالجهاد الفيس بوكى.. وينسوا أن الجهاد المجتمعى وبناء مجتمع مدنى عفى قادر على مواجهة أى استبداد محتمل - دون الحاجة لثورات باهظة الثمن مرة أخرى - هو الجهاد الأكبر الحالى، ويجب أن يظل الفيس بوك مرآة للعمل المجتمعى وليس هو العمل المجتمعى نفسه، فهل تركنا الفيس بوك وتويتر، ونزلنا إلى الميادين وسالت منا الدماء، وحررنا وطننا، كى نعود ونتقوقع أمام الشاشة البلورية مرة أخرى، ما كان يكفى قبل الثورة، حيث القبضة الأمنية الغاشمة والنظام المستبد الفاسد، لا يكفى حتما بعد الثورة.

زارنى صديق قديم وكان مبتهجا جدا وهو يردد لقد وجدتها.. أخيرا وجدتها.. ترددت قليلا فى الاتصال بمستشفى العباسية، ولكنى فضلت إعطاءه آخر فرصة، فإذا به يسرد لى حاله بعد الثورة مع الفيس بوك وقال: "حين أتابع مشاركات أصدقائى النتاويين (نسبة إلى النت) أبتسم فجأة لخبر ما، ثم أعبس لآخر، ثم أضحك لفيديو، ثم تلمع الدموع فى عينى لفيديو آخر، حتى يظن من يشاهدنى من بعيد أننى مجنون، (فبادرته أنا: ومن قريب أيضا وحياتك) فتابع متجاهلنى وقال: "ومرت بى أسوأ أيام أتابع النت وأنا تائه لا أجد نفسى، إنما عادة أدمنتها وسيطرت على وملكتنى، وأعصابى تعبت من أمواج الجدال وشلالات الأخبار والشائعات، حتى انتزعنى بعض الزملاء الناشطين كى نقوم بعمل لجان شعبية، لتامين امتحانات الثانوية العامة بمدينتنا، فوجدت أخيرا نفسى وذاتى التى تاهت منى على صفحات النت، وتذكرت أيام الميدان حيث كنت فاعلا إيجابيا مش مشاهد سلبى، والآن أتابع مستمتعا الفيس بوك أقل من ساعة يوميا، لأكتب تجربتى وأستفيد من تجارب الآخرين، وعرفت أن المتعة ليست فى قراءة الخبر أو نقله فحسب، إنما المتعة الحقيقية فى صناعة الخبر.. أو المشاركة فى صنعه.

حقا بلدنا أحوج للشباب الصانع للنهضة وليس الحالم بالنهضة، الكثيرون يكتبون الأخبار وأكثر منهم من يتناقلونها، ولكن القليل جدا من يصنعون الأخبار، نطق صديقى بالحكمة بعد أن مارس العمل بنفسه، فالحكمة هى صدى الواقع وليست نظرية افتراضية تخرج من أفواه الأسرى الذين ندهتهم النداهة اللى فى النت.

ساهم الفيس بوك فى البداية فى تجميع الشباب، ولكن الموجة الأولى لثورتنا لم تنجح إلا بالدماء الطاهرة، وكذلك الآن لن تنجح الموجة الثانية إلا بقطرات العرق الغزير الشريف.

نداء لكل الشباب المصرى الأصيل.. تحرك واعمل وشارك.. فليس بال فيس بوك وحده تنجح الثورات.

وأختتم بقصة حقيقية طريفة تعرض لها شاب يعمل فى مبيعات اللابتوب بأحد مولات القاهرة، بعد الشهرة التى اكتسبها الفيس بوك فى مجتمعنا بعد الثورة، حيث فاجأه أحد الزبائن برغبته فى شراء جهاز جيد فيه الفيس بوك، فظن الشاب أنه أخطأ الفهم، فعرض عليه أحد الأجهزة، وختم شرحه بمزايا الجهاز فى التواصل على الإنترنت، فقاطعه الزبون بحدة وثقة قائلا: "مش مهم عندى يكون بيشغل النت.. المهم يكون بيشغل الفيس بوك".