يتصرف الانسان وفقا لاعتقاده حتي لو كان اعتقادا خاطئا, ومن ثم فإن المرء اذا ماألقي في روعه انه مضطهد او انه ينتمي لجماعة مضطهدة فإنه سوف يتصرف وفقا لذلك, محاولا تفسير ما يعايشه ويشاهده من احداث من منظور انه مضطهد ولينفي ذلك بطبيعة الحال انه ليس من مجتمع بشري عبر التاريخ خلا من نوع ما وبدرجة ما من اضطهاد تمارسه جماعة حيال اخري.
وقد تلقيت خلال سنوات تدريبي الاولي في مجال العلاج النفسي, انه من افدح المحظورات ان اقابل تعبيرا عن الالم او المعاناة بالاندهاش او الاستنكار او ابداء عدم الاقتناع بوجود مبرر حقيقي لمثل ذلك التعبير والقفز الي تفنيد دعاوي المتألم وكشف مبالغاته, وانه ينبغي ان استمع فأحسن الاصغاء, وان اتعاطف اولا ثم أحاول بعد ذلك ان اشارك المتألم البحث عن جذور المه, وان تسخيف التعبير عن الالم يصبح مصدرا لمزيد من تفاقم المعاناة, خاصة اذا كنا حيال جماعة تشكو من اضطهاد.
تذكرت واستعدت تلك القاعدة الذهبية حين شاركت في مناسبات متفرقة في لقاءات احرص عليها مع الاخوة المسيحيين بهدف التماس السبل لمواجهة المخاطر التي تهدد الوطن. وكنت احرص في تلك اللقاءات علي الاسراع بإذابة ثلوج المجاملات للولوج الي عميق المشاعر خاصة السلبية منها وتشجيع التعبير عنها, ومازلت اذكر في احد تلك اللقاءات ان تشجعت شابة وروت امامي واقعة شخصية رات فيها تجسيدا واضحا لتعرضها للاضطهاد والتمييز بسبب عقيدتها, اذ تقدمت لشغل وظيفة حكومية وأدت الاختبارات التحريرية المطلوبة بنجاح وتفوق, ولكنها رسبت في المقابلة الشخصية بعد ان تعرف الممتحن علي ديانتها.
وكان تعليقي الفوري انني بطبيعة الحال اتفهم إحساسها بالظلم, ولكني سألتها عن عدد المتقدمين وعدد من تم تعيينهم, وكانت اجابتها أنه قد تقدم العشرات ولم يقع الاختيار الا علي اثنين لم يكونا اكفأ المتقدمين ولكنهما من المسلمين بطبيعة الحال, وتساءلت عن هوية بقية المتقدمين وعما اذا كانوا من المسيحيين, وكانت الاجابة المنطقية كلا لقد كانت غالبيتهم من المسلمين قلت لها بنيتي لك الحق كل الحق في شعورك بالظلم, ولكن الا تتفقين معي في ان غالبية من تم استبعادهم ظلما كانوا من المسلمين الذين ظلموا لانهم ليس لديهم واسطة؟ بل انني اكاد اجزم وفقا لوقائع روايتك بأنه لو كانت لك واسطة كبيرة لحصلت علي الوظيفة فالواسطة قد تتغلب حتي علي التعصب في موقف معين يري فيه المتعصب ان هذا السلوك المغاير لتوجهه قد يحقق له فائدة ما, ولكن مثل هذا السلوك ولو تكرر يظل استثناء يؤكد الظلم ولاينفيه.
وتساءلنا عن السبيل الامثل لمقاومة الظلم وحصول المظلومين علي حقوقهم ؟ ماالذي ينبغي ان يفعل من يري نفسه مظلوما ؟ صحيح ان اساليب دفع المظالم والتصدي لاحصر لها: من الدعاء والابتهال الي السباب واللعن الي كافة انواع المقاومة, غير ان الشرط الاساسي لضمان فعالية اي من هذه الاساليب هو التضامن الجماعي للمظلومين.
ان تتجه انظار المظلوم اول ما تتجه الي غيره ممن يشاركونه الإحساس بالظلم سعيا للاحتجاج جماعة, فكلما ازداد حجم جماعة المظلومين المحتجين ازدادت فرص رفع الظلم عنهم وانخفض حجم المقاومة المطلوبة سواء من حيث الوقت او الخسائر, وتزايدت احتمالات الحصول علي الحقوق.
ولعل النموذج الذي يجسد ذلك يتمثل فيما نراه امام اعيننا هذه الايام من اضرابات متكررة,يري فيها البعض نذير شر وأراها بشير خير, فهي من ناحية تكشف للسلطة نواحي قصورها, وتدفعها للاستماع الي المحتجين وللتفاوض معهم, وهي من ناحية اخري تعبر عن عودتنا لاسلوب الاحتجاج المدني الجماعي, وهو اسلوب تعرفه بلدان العالم المتحضر جميعا وقد كانت مصر هي اول من عرفه في العالم العربي عام1889 حين قام عمال السجاير بسلسلة من الاضرابات استمرت حوالي شهرين, وتلا ذلك اضراب عمال الترام عام1908, وتوالت الاضرابات الاقتصادية والوطنية حتي اضراب عمال كفر الدوار في اغسطس1952 الذي ووجه بمحاكمات عسكرية سريعة, وتم اعدام العاملين مصطفي خميس ومحمد البقري, والحكم بالاشغال الشاقة علي عدد آخر.
ثم غاب ذلك الشكل المتحضر عن بلادنا لحقبة طويلة تم فيها تجريمه وتخوين من يقومون به او يدعون له, الي أن بدأ يطل برأسه من جديد بعد هزيمة1967, فشهدنا مظاهرات1971,1968, و استمرت الوتيرة في التصاعد بعد حرب اكتوبر لنشهد احتجاجات1977, وبدأ اسلوب السلطة في مواجهة تلك الاحتجاجات يتغير شيئا فشيئا, ليسفر في النهاية عن بداية عودة الوعي للشارع المصري وللسلطة المصرية علي حد سواء.
خلاصة القول انه علي المظلوم ان يتلفت حوله, وسوف يكتشف انه ليس المظلوم الوحيد, ويصبح عليه لرفع الظلم عنه السعي لتوسيع دائرة المحتجين معه, لإدارة صراع فعال من اجل ان يسود العدل وتسود الشفافية.
منقــــــــــــــــــــــــــول
المفضلات