مناحة في حقل
*** عند الفجر قبيل بزوغ الشمس من وراء الشفق, جلست في وسط الحقل أناجي الطبيعة. في تلك الساعة المملوءة طهرا و جمالا بينما كان الإنسان مستترا في لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة و اليقظة أخرى , كنت متوسدا الأعشاب استفسر كل ما أرى عن حقيقة الجمال و استحكي ما يرى عن جمال الحقيقة .
و لما فصلت تصوراتي بيني و بين البشريات و أزاحت تخيلاتي برقع المادة عن ذاتي المعنوية شعرت بنموّ روحي يقربني من الطبيعة و يبين لي غوامض أسرارها و يفهمني لغة مبتدعاتها .
و بينما كنت على هذه الحالة مرّ النسيم بين الأغصان متنهدا تنهد يتيم يائس , فسألت مستفهما : لماذا تتنهد يا أيها النسيم اللطيف ؟ فأجاب : لأنني ذاهب نحو المدينة مدحورا من حرارة الشمس , إلى المدينة حيث تتعلق بأذيالي النقية جراثيم الأمراض و تتشبث بي أنفاس البشر السامة , من أجل ذلك تراني حزينا .
ثم إلتفت حول الأزهار فرأيتها تذرف من عيونها قطرات الندى دمعا فسألت : لماذا البكاء يا أيتها الأزهار الجميلة ؟ فرفعت واحدة منهن رأسها اللطيف و قالت : نبكي لأن الإنسان سوف يأتي و يقطع أعناقنا و يذهب بنا نحو المدينة و يبيعنا كالعبيد و نحن حرائر , و إذا ما جاء المساء و ذبلنا رمى بنا إلى الأقذار , كيف لا نبكي و يد الإنسان القاسية سوف تفصلنا عن وطننا الحقل ؟ .
و بعد هنيهة سمعت الجدول ينوح كالثكلى فسألته : لماذا تنوح يا أيها الجدول العذب ؟ فأجاب : لأنني سائر كرها إلى المدينة حيث الإنسان يحتقرني و يستعيض عني بعصير الكرمة و يستخدمني لحمل أدرانه , كيف لا أنوح و عن قريب تصبح نقاوتي وزرا و طهارتي قذرا ؟ .
ثم أصغيت فسمعت الطيور تغني نشيدا محزنا يحاكي الندب فسألتها : لماذا تندبين يا أيتها الطيور الجميلة ؟ فأقترب مني عصفور و وقف على طرف الغصن و قال : سوف يأتي ابن آدم حاملا آلة جهنمية تفتك بنا فتك المنجل بالزرع , فنحن نودع بعضنا بعضا لأننا لا ندري من منا يتملص من القدر المحتوم , كيف لا نندب و الموت يتبعنا أينما سرنا ؟ .
طلعت الشمس من و راء الجبل و توّجت رؤوس الأشجار بأكاليل ذهبية و أنا أسأل ذاتي لماذا يهدم الإنسان ما تبنيه الطبيعة...
جبران خليل جبران
إنتقاء
العين الساهرة
المفضلات